رجال يصنعون التاريخ وآخرون يأتي بهم، كثيرون ممن يأتي بهم التاريخ يذهبون، دون أن يبقى لهم أثر في سجلات أمتهم، أما الذين صنعوا التاريخ فيسجلون أسمائهم بأحرف من نور على صفحات تاريخ بلدانهم، فيعيشون في ذاكرة الأجيال على مرِّ العصور، ويبقون خالدين في ذاكرة أوطانهم
ومن هؤلاء الذين ساهموا في تطوّر ورقيّ مجتمعاتهم ابن بيروت وعائلة سنو الذي فارقنا منذ أيام المرحوم البروفسور وفيق مصباح سنو الذي تنازل عن كل شيء مقابل أن ينعم أهله وأبناء مدينته بالآمان.
لا يُمكن للكلمات، ولا المُطوّلات، أن تفي حقّ هذا الطبيب الإنسان الأصيل والعريق، والقامة العربيّة واللبنانيّة والبيروتيّة الشامخة
عمل البروفسور سنو في مجال علوم وجراحة العين لأكثر من 70 سنة، ليدرج اسمه على لائحة أشهر أطباء العيون في لبنان والعالم العربي وفرنسا، فتبوأ أهم المناصب العلمية والإدارية، ونال ألقاباً علمية عديدة، إضافة إلى ترأسه عدد كبير من المؤتمرات والندوات واللقاءات الطبيّة العالميّة، عدا نشره للمئات من البحوث والدراسات والمقالات العلميّة.
كان بشخصه موسوعة علميّة وطبيّة، واعتُمد علماً ومرجعاً عالميّاً في مجال طب وجراحة العين، وكذلك نال العديد من الأوسمة في لبنان والخارج تقديراً لإنجازاته ومكانته وقدراته
اعتزّ البروفسور سنو بدوره كطبيب، وشرّف مهنة الطبّ بممارسته العلميّة والإنسانيّة، فخدم مرضاه بإخلاص وتفانٍ ولم يتخلَّ عن مسؤولياته تجاههم، فكان يتنقّل رغم مخاطر الحرب الأهليّة بين شرق بيروت وغربها، لإجراء عمليات مستعجلة للمرضى في مستشفيات: أوتيل ديو والمقاصد والبربير
كما بدوره أجرى أكثر من 300 ألف معاينة مجانيّة لمرضى محتاجين، وقدّم العلاج والأدوية مجاناً لآلاف المرضى من الفقراء والمعوزين، ولذا أُطلِقَ عليه طبيب الملوك الذي يُعاين الفقراء مجاناً
شهدت المستشفيات ونقابة الأطباء والجامعات وكليات الطب على انجازاته، حين قام بتدريب حوالي 2500 طالب في كلية الطب، و1000 ممرّضة، وعمل على تخريج أكثر من 42 طالباً في مجال طب العيون
تمتّع البروفسور سنو بشعبيّة بيروتيّة واسعة بسبب صدقه وصراحته وجرأته ورصانته وأخلاقه وتواضعه، وقربه من العائلات البيروتيّة ومعرفته الوثيقة بالناس، كما كان حكيماً في التعاطي مع المشاكل والخلافات العائليّة وطُرق تسويتها
كان همّه الأساس ملاحقة مشاريع بيروت الإنمائيّة، والمساهمة في حلّ معضلات القضايا الوطنيّة. وكان قريب جداً من الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان يلتقي به بشكل دائم ليستمع إليه ويأخذ برأيه.
قدّم البروفسور سنو خدمات جُلّى وكثيرة لبيروت وأبنائها وللمؤسّسات البيروتيّة، فقد كان أحد أعضاء جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت وعضواً فاعلاً في مجلس أمنائها، وعضواً في مؤسسات دار الأيتام الإسلاميّة، ورئيساً لجامعة آل سنو، وأوّل رئيس لاتحاد جمعيّات العائلات البيروتيّة. كما كانت له مساهماته في عمل الخير لكثير من المؤسّسات الخيريّة والإنسانيّة في بيروت خصوصاً، وفي معظم المناطق اللبنانية والعالم العربي عموماً
غاب عنّا البروفسور وفيق سنّو بعد مسيرة حياة مُشرّفة، رحل عنا جسداً لكن باقٍ فينا من خلال سيرته العطرة وانجازاته العلميّة والطبيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، وسيبقى مثالاً وقدوة للأجيال الصاعدة
أخيراً، رحم الله فقيدنا الغالي البروفسور وفيق سنو، نسأل الله تعالى أن يرحمه ويسكنه فسيح جناته، ويدخله الجنة مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين إنه سميع مجيب. برحيله، فَقدَ لبنان ومعه ست الدنيا وسيدة العواصم بيروت وجهاً بارزاً من وجوه الفكر والعلم والثقافة
مـــحــمد خــالد ســنو
رئيس جامعة آل سنو